### **الذكاء الاصطناعي وسوق العمل: نهاية حقبة أم فجر فرص جديدة؟**
في خضم الثورة التكنولوجية المتسارعة التي
يعيشها العالم، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة تحويلية هائلة، مثيراً في الأوساط
الاقتصادية والاجتماعية نقاشاً جدلياً عميقاً حول مستقبل العمل. تتأرجح الرؤى بين
نبوءات متشائمة تتحدث عن نهاية ملايين الوظائف واستبدال الإنسان بالآلة، وبين
توقعات متفائلة تبشر بعصر من الإبداع والإنتاجية غير المسبوقين، حيث تُخلق مهن
جديدة لم تكن في الحسبان.
![]() |
### **الذكاء الاصطناعي وسوق العمل: نهاية حقبة أم فجر فرص جديدة؟** |
- الحقيقة، كما هي الحال مع كل تحول جذري، تكمن في منطقة رمادية معقدة
- تتطلب فهماً دقيقاً لطبيعة هذا التغيير
وكيفية التكيف معه.
#### **الخوف المشروع مقابل التفاؤل الحذر**
أدى الانتشار السريع لأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل نماذج "كلود" و"جي بي تي"، إلى تغذية مخاوف مشروعة. فلأول مرة في التاريخ، لم تعد الأتمتة تقتصر على المهام اليدوية أو الحسابية المتكررة، بل امتدت لتشمل مهاماً معرفية وإبداعية كانت حكراً على العقل البشري، مثل كتابة النصوص، وتصميم البرمجيات، وتحليل البيانات المعقدة.
- هذا التطور أثار قلقاً بالغاً، كما عبر عنه داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة "أنثروبيك"، الذي
- تكهن بأن التكنولوجيا قد تخفض عدد الوظائف المبتدئة في الولايات المتحدة إلى النصف خلال خمس
- سنوات فقط. يمثل هذا التنبؤ، إن تحقق، تحدياً هيكلياً للشباب المقبلين على سوق العمل وللسلم الوظيفي
- التقليدي.
في المقابل، تقدم جهات أخرى رؤية أكثر تفاؤلاً. يشير تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي، استناداً إلى استطلاع آراء قادة ألف شركة كبرى، إلى أن الذكاء الاصطناعي سيكون المحرك الرئيسي لخلق الوظائف بحلول عام 2030. ويتوقع التقرير أن تساهم هذه التكنولوجيا في خلق حوالي 170 مليون وظيفة عالمياً في السنوات الخمس المقبلة، وهو رقم يفوق بكثير عدد الوظائف المتوقع فقدانها، والمقدر بـ 92 مليون وظيفة.
هذا الفارق الصافي الإيجابي يشير إلى أن الاضطراب سيصاحبه نمو، وأن التحول سيكون في طبيعة الوظائف وليس في عددها الإجمالي بالضرورة.
#### **السياق التاريخي هل يكرر التاريخ نفسه؟**
لكي نفهم الحاضر، لا بد من استقراء الماضي. على مر القرون، أثارت كل ثورة تكنولوجية كبرى موجة من القلق بشأن مستقبل العمالة. فمن الثورة الصناعية التي استبدلت الحرفيين بالآلات، إلى ثورة الكمبيوتر التي قضت على وظائف مثل عمال الطباعة اليدوية ومشغلي لوحات المفاتيح، كان الخوف من البطالة الجماعية حاضراً دائماً. ولكن في كل مرة، كان التاريخ يثبت أن التكنولوجيا تخلق وظائف جديدة أكثر مما تدمر.
- فظهور السيارات خلق صناعة كاملة من الميكانيكيين وبائعي السيارات وعمال الطرق
- وظهور الإنترنت أوجد مهناً مثل مطوري الويب وخبراء
التسويق الرقمي ومحللي البيانات.
ومع ذلك، يحذر خبراء مثل إيثان موليك، أستاذ
إدارة الأعمال في جامعة بنسلفانيا، من أن "الأمر قد يكون مختلفاً هذه المرة".
فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل هو تقنية قادرة على التعلم والتطور وأداء
مهام معرفية غير روتينية. هذا ما يجعله مختلفاً جوهرياً عن التقنيات السابقة. ومع
ذلك، يظل الإجماع العام هو أننا ما زلنا في مرحلة مبكرة جداً، وأن الحكم النهائي
على تأثيره سابق لأوانه.
#### **ملامح سوق العمل الجديد وظائف تتشكل اليوم**
بدأت ملامح هذا السوق الجديد بالظهور فعلياً. وتشير
بيانات من منصات التوظيف مثل "Glassdoor" إلى
تضاعف إعلانات الوظائف المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بين عامي 2023 و2024، مع زيادة
إضافية بنسبة 56% في العام الحالي. يمكن تصنيف هذه الوظائف الناشئة إلى فئات
رئيسية:
1. **وظائف
التطوير والبناء (The Builders):**
هذه هي الأدوار التقنية الأساسية التي تبني وتشغل أنظمة
الذكاء الاصطناعي. تشمل مهندسي تعلم الآلة، وعلماء البيانات، ومهندسي البرمجيات
المتخصصين في الذكاء الاصطناعي. هؤلاء هم المعماريون الذين يصممون الخوارزميات ويطورون
النماذج.
2. **وظائف
التدريب والتحسين (The Trainers):**
تعتمد جودة نماذج الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر على جودة
البيانات التي تتدرب عليها. هنا تظهر فئة جديدة وسريعة النمو من الوظائف، مثل "مدربي
الذكاء الاصطناعي" أو "مُقيمي جودة البيانات". يقوم هؤلاء بمراجعة
مخرجات النماذج، وتصحيحها، وتقديم أمثلة عالية الجودة لتعليمها، وغالباً ما
يتطلبون خبرة متخصصة في مجالات معينة كالقانون أو الطب أو لغات محددة. وقد شهدت
هذه الأدوار، التي غالباً ما تكون مستقلة، نمواً بأكثر من أربعة أضعاف خلال العام
الماضي.
3. **وظائف
الإشراف والتكامل (The
Implementers & Auditors):** مع تبني الشركات للذكاء
الاصطناعي، تظهر الحاجة إلى متخصصين يستطيعون دمج هذه التقنيات في سير العمل
الحالي. تشمل هذه الفئة "مديري منتجات الذكاء الاصطناعي"، و"المحللين
المتخصصين في الأخلاقيات والتحيز في الذكاء الاصطناعي" (AI Ethicists) الذين يضمنون أن
الأنظمة عادلة وغير متحيزة، و"مدققي الذكاء الاصطناعي" (AI Auditors) الذين يتحققون من
سلامة وموثوقية الأنظمة.
4. **الوظائف
المُعززة بالذكاء الاصطناعي (AI-Augmented
Roles):** ربما تكون هذه هي الفئة الأوسع والأكثر
تأثيراً. هنا، لا يحل الذكاء الاصطناعي محل الموظف، بل يصبح مساعداً ذكياً يعزز
قدراته. سيستخدم المحامي الذكاء الاصطناعي للبحث السريع في آلاف القضايا السابقة،
وسيعتمد الطبيب عليه لتحليل الصور الطبية بسرعة فائقة، وسيستخدمه المسوق لتوليد
أفكار إبداعية واستهداف الجمهور بدقة أكبر. في هذا السيناريو، تتحول الوظائف من
التركيز على المهام الروتينية إلى التركيز على الاستراتيجية، واتخاذ القرارات
المعقدة، والتفاعل الإنساني.
ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن بعض الأدوار التي
ظهرت في البداية، مثل "مهندس الأوامر الفورية" (Prompt Engineer)، بدأت شعبيتها في
التلاشي، حيث أصبحت النماذج أكثر ذكاءً في فهم اللغة الطبيعية، مما يحول "هندسة
الأوامر" من وظيفة متخصصة إلى مهارة أساسية للجميع.
#### **المستقبل الغامض والتحدي الأكبر التكيف**
على الرغم من هذه المؤشرات، يظل المسار
المستقبلي غامضاً. كما يشير ديفيد أوتور، الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا،
"نحن جيدون في التنبؤ بكيفية تغير العمل الحالي، ولكننا لسنا جيدين في التنبؤ
بما سيكون عليه العمل الجديد". فالوظائف التي ستكون شائعة بعد عشر سنوات قد
لا يمكننا تخيلها اليوم.
لذا، فإن التحدي الأكبر ليس محاولة التنبؤ
بالمستقبل بدقة، بل بناء المرونة والقدرة على التكيف. وهذا يتطلب تحولاً جذرياً
على ثلاثة مستويات:
* **على
المستوى الفردي:** يجب أن يصبح التعلم مدى الحياة هو القاعدة وليس الاستثناء. المهارات
التي ستكون حاسمة هي تلك التي يصعب على الذكاء الاصطناعي محاكاتها: التفكير
النقدي، والإبداع، والذكاء العاطفي، والقدرة على حل المشكلات المعقدة، والتعاون.
* **على
مستوى الشركات:** يجب أن تستثمر المؤسسات في إعادة تدريب وتأهيل موظفيها، وخلق
ثقافة تحتضن التغيير وتنظر إلى الذكاء الاصطناعي كشريك لتعزيز القدرات البشرية، لا
كبديل لها.
* **على
مستوى الحكومات والتعليم:** هناك حاجة ماسة لتحديث المناهج التعليمية لتزويد
الطلاب بالمهارات اللازمة لعصر الذكاء الاصطناعي، وإنشاء أنظمة دعم قوية للعمال
الذين قد تتأثر وظائفهم للمساعدة في انتقالهم إلى أدوار جديدة.
**خاتمة**
إن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد موجة عارمة ستجرف كل شيء في طريقها، بل هو تيار قوي يمكن توجيهه. إنه يمثل نهاية لبعض أشكال العمل، ولكنه في الوقت نفسه يمثل بداية لعهد جديد من التعاون بين الذكاء البشري والاصطناعي.
النجاح في هذا العصر الجديد لن يكون لمن يقاوم التغيير، بل لمن يسارع
إلى فهمه وتبنيه، مستغلاً هذه الأدوات القوية لتوسيع آفاق الإمكانات البشرية وخلق
قيمة لم تكن ممكنة من قبل. المستقبل ليس مكتوباً بعد، ونحن من سيشكله بقراراتنا
اليوم.